أهالي ديم القراي يقطعون الطريق ليفطر الصائمون .... فافخروا بهم

ِ

طريق الجيلي شندي عطبرة هيا يمتد أسودا متعرجا كشعرة على صفحة ذهبية, لا يشوبها إلا القليل من الخضرة التي لا تكاد تبدو إلا بعد طول غياب لقلة المطر. في نهاية كل أسبوع تنشط حركة الركاب إلى ولاية نهر النيل تشجعهم على ذلك إجازة يوم السبت مضافة إلى الجمعة. وفي شهر الجود رمضان الكريم تنتبه قيم الكرم الناعسة بين حناي بني شعبنا الكريم فهي عندهم لا تنام ولكن صروف الزمان حيناً غلابة. كل القرى على الطريق يخرج الناس بإفطاراتهم ويتوسلون إلى المارة بأن يشرفوهم بالنزول عندهم, ولكن في ديم القراي فقد رأيت عجباً!!!!!

يتراص الشبان الذين تبدو مشقات الحياة على سحناتهم على ظهر الطريق يتقافزون ويتصايحون ويلوحون بأيديهم أن هدئ سرعتك أيها الرجل فأمامك سد حصين من الكريم يخجل كريم طي!!! ولسان الحال يقول إما أن تقف أو تدهس أجسادنا التي لا تعدو أن تكون مركباً لأرواح تشربت بكرم يقتل صاحبه ولا يكتفي بإفقاره كما تمثل الأول:

لا تنكري عطل الكريم عن الغني فالسيل حرب للمكان العالي.

قبل وقت ليس بالقليل من زمن الإفطار يقطع هؤلاء الكرام الطريق ولا يبالون بالعدد بل يسخطون على من يفلت منهم. للأمانة كنت أمنّي نفسي بالإفطار مع أهلي بالعلياب وتحسباً لعوارض السفر كنت قد اشتريت من شندي تمراً بجنيه جعلني أرجو التكرم على عدد من الركاب وما درت نفسي أن الرجال سيكشفون قذى العجب عنها لترأى كيف يكون الكرم!!!! تشبحوا على الطريق وأرغموا السائق على الوقوف والركاب يهمهمون بأن الوقت لا زال باكرا والكل ينظر إلى ساعته ولا أحد أسخط مني إذ تبخرت الأماني التي نسجت لبرنامج يومي في مسقط الرأس. هذا الحال جعلني آخر المستسلمين لأوامر قطاع الطريق بالنزول, وكنت أنظر من على مقعدي مزيحاً ستار نافذتي المترف الثخين شزراً إلى هذا الرجل القصير الممتلئ الذي يأمرني بالنزول, وما حيلتي إذا استسلم جميع الركاب كيف لا وساحة التجريد تئن من وطأة زحام المستسلمين قبلي من المركبات والبشر. من البصات الكبيرة حسبت ثلاثة والشاحنات أربعة عشر أما السيارات الصغيرة فكيف أحصها؟؟؟

تفضلوا تفضلوا يهتف الجميع ويخصك أحدهم - مربتاً على ظهرك دافعاً بك إلى موضع الإفطار - تفضل يا زول تفضل يا زول. الجميع توزع الجميع المهام, البعض لا يزال متشبحاً على الطريق يتصيد المزيد من العابرين والبعض في استقبال النازلين والبعض يدلك على مكان أحواض الوضوء والبعض يصب الماء من على ظهر اللوري الذي البرميل الضخم والبعض يتناول منه ليصب ليعوض ما تلقفته الأيدي والبعض يوزع الناس إلى مجالسهم والبعض يوزع المأكول والمشروب من عصائر وماء وتمر وعصائد وأدم ورغايف وقراريص وبليلة. مدت أربعة مفارش يبلغ طول الواحد منها تقريباً عشرون متراً في الطرفي منها صف واحد وفي الوسطاوين صفين متدابرين من البشر هذا عند الرجال أما الحريم فلم أر كيف الوضع عندهن.

إذا نظرت غرباً تجاه مباني قرية ديم القراي رأيت الفراغ الشاسع بينها والشارع يعج بالمتسارعين إلى المكان يحملون بكلتا الأيدي من الحافظات للساخن والبارد والصحون ما يبز عطش وجوع الصائم. جلت بنظري في الساحة باحثاً عن مراكز التحكم في مهام خلية النحل هذه!!!! الطفل والشاب والشيخ كل بمهمة يؤديها بهمة عالية ونفس طيبة لا تنقطع عن صدقة الابتسام!!!!

تقدمت إلى أحواض الوضوء المنتشرة وتوضأت ثم أخذت موضعي للإفطار والقوم على رأسك وقوفاً وحتى بعد الأذان كانوا يزيدون قدح هذا ويسقون ذاك والضيوف يهتفون بهم أفطروا يا ناس .... أقعدوا..... أقعدوا .... اكتفوا بالتمر والماء حتى إذا صلى الجميع المغرب تحلقوا على الفضلة يأكلون ولكن بعضهم يأكل واقفاً فالقهوة والشاي شوط ثان تحتاج إلى من يدلك على مكانه ويناولك إياه في الزحام!!!!

لا بد لهذا الأمر من تدبير! ولكن يجب أن أعرف. أحدهم في العقد الرابع أو الخامس أراه يصرف الأوامر بلا هوادة يتحرك بنشاط فريد – رعاه ربي – جيئة وذهاباً بعراقيه الذي مال به أحد جيبيه مما تكدس به من الورق والأغراض وما هو إلا ذلك الرجل الممتلئ الذي اشمأزت نفسي من أوامره العلية بالنزول. تقدمت إليه وألقيت التحية بإعجاب وقلت:

شغلكم دا شغل رجال ربنا يعينكم ويوفقكم.
جزاك الله ياخي
أنا من أهلك العلياب.
مرحب بيك ياخي والله معانا هنا جماعة منكم وبنعرف طيفور محمد شريف وجينا العلياب لبكاه رحمه الله.
نحن قايلين روحنا رجال لكن انتو والله أرجل مننا.
لا ياخي نحن والله حالتنا واحدة في كل نهر النيل.
أها شغلتكم دي عندكم ليها نظام وللا بس أي زول يجيب فطورو ويجي هنا؟؟؟
عندنا نظام وبرضو كل زول يجيب فطورو.
كيف؟؟
عندنا لجنة تشرف على الفطور هنا وبرضو الناس من بيوتا بتساهم.
طيب العمل دا على راسو منو؟؟؟
اللجنة فيها هنا أربعتنفار خالد علي التوم وعبد الغفار أحمد سليمان وعبد الرحمن المكي وأنا صلاح البشير محمد علي (صلاح شروم)
طيب التكاليف دي بتعملوا معاها كيف؟؟؟
والله ياخي ولاد ديم القراي البرة كلهم في الخرطوم وكوستي ووين ووين بساهمو معانا ونحنا بنشوف الناس القادرين منهم وبساعدو وبرضو الزول هنا الما قادر بنشيلو حيلو عشان يمرق قدحو.
والله أنا شغلتكم دي عاجباني خلاص.
والله كلامك دا برضو عجبنا عليك الله أدنا تلفونك وأنا تلفوني: 0911285992
اصبر أصبر خلني اللجيب لي قلم. وكان بعض الناس قد تحلق حولنا معجبا بالحوار التفت لأحدهم الذي مد على قلمه فكتبت الأسماء والهاتف على ظهر تذكرة (الدامر للنقل) ثم قلت عندي نيه أنشر عن موضوعكم دا؟؟
مافي عوجة وبارك الله فيك.
ربنا يعينكم ويتقبل منكم ثم صافحت شاكرا العدد المتجمهر حولنا ثم صحت في البقية عظم الله أجركم يا جماعة وبارك الله فيكم وربنا يعينكم ووالله شغلكم دا شغل رجال. ثم انصرفت إلى مقعدي في البص وعجبت كيف انقلب ضجري إعجاباً - بقطاع الطريق هؤلاء- أخرس اللسان وعجز أن يجد عبارات يدعو لهم بها ولكل النفس تتمنى لهم ما قصرت عنه همتها. رعاكم الله أهل ديم القراي فقد أثلجتم الصدر وحق لشعبنا بكم الفخر.

التحية وتعظيم سلام... لأهلنا الطيبين في ديم القراي...

فهم بلا فخر النموذج المُعتمد للإنسان السوداني الأصيل...

ولك قواسيب مودتي أخي محمد جمرة...

أبو الحُسين...

» هيا بنا يا إخوتي نحي الطريق*بعــوْد مجد أفخم