بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الانبياء والمرسلين
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
نسب الشيخ عبد القادر الجيلاني
هو شيخ الاسلام تاج العارفين و سيد الطوائف أبو محمد محيي الدين عبد القادر الجيلاني الحسني الصديقي بن أبي صالح موسى جنكى دوست بن عبد الله بن موسى الجون بن عبد الله المحض بن أبي محمد الحسن المثنى بن سيدنا الإمام الحسن السبط بن الإمام الهمام الغالب فخر بنى غالب أمير المؤمنين سيدنا على بن أبى طالب ورضى الله عنهم أجمعين وهو صاحب الطريقة القادرية بشارتها الخضراء التى ترمز إلى حب آل البيت الطيبين الطاهرين.
وكان الامام عبد الله المحض، ولد بالمدينة المنورة ونشأ فيها بين أهل البيت وهم أهل العلم والفضل والتقوى،وبعد ان نبغ واشتهر التف حوله عدد كبير من الناس ينتهلون من علمه وفضله، فوشى به بعض اهل الفتنة لدى الخليفة العباسي (ابي جعفر المنصور) فاسقدمه مع اسرته الى بغداد سنة (144-ه) وحبسهم في سجن فيها وعذ بهم ومات بعضهم بالتعذ يب ، ومات الامام عبد الله المحض في الحبس ودفن في ضاحية من ضواحي بغداد الجنوبية. وقبره هنالك يزار وقد انتشئ عنده مسجد صغير يسمى مزار السيد عبدالله وهو يقع على الضفة الجنوبية من قناة اليوسفية وعلى بعد عشر كليومترات الى الغرب من قرية ( اليوسفية) الكائنة على مسافة (20) كيلو مترا الى الجنوب من (جسر الخر) حيث يمر فيها الطريق الموصل بين بغداد والحلة.
ولقد اقامت ذرية الامام عبد الله المحض في بغداد حتى زال الاضطهاد عن العلويين في عهد الخليفة العباسي (المأمون) حيث تفرق العلويون في الامصار ومنهم ذرية الامام عبد الله المحض ، فقد هاجر بعضهم الى الحجاز واليمن وقامت لهم امارات فيها وهم السليمانيون اولاد سليمان بن عبد الله المحض ، وهاجر بعضهم الى الغرب وقامت لهم فيه امارات لازالت قائمة وهم (الادارسة) ، اولاد ادريسى بن عبدالله المحض . وهاجر بعضهم الى بلاد فارس ومنهم من سكن جيلان وكانت لهم الامارة الروحية فيها وهم (الجونيون) اولاد موسى الجون بن عبد الله المحض.
سميت الاسرة العلوية التي نشأت في جيلان باسم اشراف جيلان ، وقد نشأ الشيخ عبد القادر في كنف هذه الاسرة الطيبة ، فكان هذا المنشأ الكريم قاعدة لشخصية هذا الشيخ الجليل .
مولده ونشأته
ولد العارف بالله تعالى الشيخ عبد القادر الجيلاني في نيف وهي قصبة من جيلان سنة 470ه-1077م تقرأ بالجيم العربية كما تقرأ بالكاف الفارسية فيقال لها جيلان أو كيلان ، وهي اسم لبلاد كثيرة من وراء طبرستان ، ليس فيها مدن كبيرة وانما هي قرى ومروج بين الجبال.
ولاتزال كيلان محتفظة باسمها القديم وهي ولاية ايرانية تقع في جبال البروز المتدة من الشرق الى الغرب موازية للساحل الجنوبي من بحر قزون.
وقد نشأ الشيخ عبد القادر في اسرة كريمة جمعت شرف التقوى ، فقد كان والده ابو صالح موسى على جانب كبير من الزهد وكان شعاره مجاهدة النفس وتزكيتها بالاعمال الصالحة ولذا كان لقبه بالفارسية جنكي دوست اي محب الجهاد.
وكانت للشيخ موسى اخت صالحة اسمها عائشة ، كان الناس يستسقون بها اذا حبس عنهم المطر ، وكان جده عبدالله بن يحى الزاهد من أهل الارشاد ، وينتهي نسب هذه الاسرة الى الامام عبدالله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن ابي طالب رضي الله عنهم.
سفره الى بغداد
وكان الشيخ الجيلاني رحمه الله قد نال قسطاً من علوم الشريعة في حداثة سنه على ايدي افراد من اسرته،فنشأ مولفا في طلب العلم وصار يبحث عن منهل عذب ينتهل منه زيادة المعرفة،فلم يجد خيرا من بغداد ، التي كانت عامرة بالعلماء ومعاهد العلم،وكانت محط انظار المسلمين في مشارقهم ومغاربهم،وكان رحمه الله قد عقد العزم على المضي في طلب العلم رغم الصعوبات التي كانت تكلف الطلاب في ذلك العهد.
دخوله بغداد
وكان الشيخ عبد القادر ، قد وصل بغداد سنة 488ه-1095م في عهد الخليفة العباسي المستظهر بالله ابو العباس أحمد بن المقتدي بأمرالله أبو القاسم عبد الله العباسي .
وبعد أن استقر الشيخ عبد القادر في بغداد انتسب الى مدرسة( الشيخ أبو سعيد الُمُخَِرمي) التي كانت تقع في حارة باب الازج، في اقص الشرق من جانب الرصا فة، وتسمى الأن محلة باب الشيخ.وكان العهد الذي قدم فيه الشيخ الجيلاني الى بغداد تسوده الفوضى شملت كافة انحاء الدولة العباسية، حيث كان الصلبيون يهاجمون ثغور الشام،وقد تمكنوا من الاستيلاء على انطاكية وبيت المقدس وقتلوا فيهما خلفا كيثرا من المسلمين ونهبوا اموال كثيرة.وكان السلطان التركي (بركياروق) قد زحف بجيش كبير يقصد بغداد ليرغم الخليفة على عزل وزيره (ابن جهير) فاستنجد الخليفة بالسلطان السلجوقي (محمد بن ملكشاه) . ودارت بين السلطانين التركي والسلجوقي معارك عديدة كانت الحرب فيها سجالا، وكلما انتصر احدهما على الآخر كانت خطبة يوم الجمعة تعقد باسمه بعد اسم الخليفة.
وكانت فرقة الباطنية التي الفه ( الحسن بن الصباح) قد نشطت في مؤامراتها السرية واستطاعت ان تقضي على عدد كبير من امراء المسلمين وقادتهم فجهز السلطان السلجوقي جيشا كبيرا سار به الى ايران فحاصر (قلعة اصفهان) التي كانت مقرا لفرقة الباطنية وبعد حصار شديد استسلم اهل القلعة فاستولى عليها السلطان وقتل من فيها من المتمردين ، وكان (صدقة بن مزيد) من امراء قبيلة بني اسد قد خرج بجيش من العرب والاكراد يريد الاستيلاء على بغداد فتصدى له السلطان السلجوقي بجيش كبير من السلاجقة فتغلب عليه .
وكان المجرمين وغيرهم من العاطلين والاشقياء ينتهزون فرصة انشغال السلاطين بالقتال فيعبثون بالامن في المدن يقتلون الناس ويسلبون اموالهم فاذا عاد السلاطين من القتال انشغلوا بتأديب المجرمين.
طلبه للعلم
وفي غمرة هذه الفوضى كان الشيخ عبد القادر رحمه الله يطلب العلم في بغداد،وتفقه على مجموعة من شيوخ الحنابلة ومن بينهم الشيخ ابوسعيد المُخَرِمي ، فبرع في المذهب والخلاف والاصول وقرأ الادب وسمع الحديث على ايدي كبار المحد ثين.
ولقد قاس الشيخ عبد القادر ماكان يقاسيه الغرباء من طلبة العلم في ذلك العهد المضطرب من شظف العيش.
وكان قد امض من عمره النفيس ثلاثين عاما يدرس فيها علوم الشريعة اصولها وفروعها ، وقد كايد خلال هذه الفترة الطويلة ضيق العيش ومرارة الحرمان، بيد ان العناية الالهية كانت قد منحته عقلا راجحا وصبرا جميلا وهمه عالية،فاستطاع بهذه السجايا ان يحتمل الشدائد ويذلل الصعاب،فلم تجزع نفسه من الشدة ولم تفتر عزيمته عن المثابرة في طلب العلم .
جلوسه للوعظ
وحينما انس الشيخ ابو سعيد المُخَرِمي من تلميذه عبد القادر غزارة العلم ووفرة الصلاح عقد له مجالس الوعظ في مدرسته بباب الازج في بداية (521-ه) فصار يعظ فيها ثلاثة أيام من كل اسبوع،بكرة الاحد وبكرة الجمعة وعشية الثلاثاء.وحينما تصدى الشيخ عبد القادر للوعظ كانت الخلافة العباسية قد آلت الى المسرشد بن المستظهر، وكان شجاعاً بعيد الهمة،محباً للخير،اراد ان يظهر هيبة الخلافة فدعا الناس الى الجهاد وجمع جيشا كبيرا من المتطوعين أهل الفتوة وخرج بهم لمحاربة الامراء الاتراك الذين عاثوا في الارض فسادا،وكاد ان يخضع بشوكتهم لولا خيانة قائده السلجوقي (مسعود بن ملكشاه) الذي خرج عليه وهدد مؤخرته فأضطر الخليفة ان يعود بجيشه الى بغداد، بينما كان في الطريق اغتاله احد الباطنية فأفضت الخلافة الى ابنه الراشد، وزحف الامراء الاتراك بجيوشهم نحو بغداد.
فحاصروها واستولوا عليها بعد قتال شديد واجتمعوا على خلع الراشد وتولية الخلافة من بعده الى عمه (المقتفي) ونهب الاتراك دار الخلافة وتنازعوا على السلطة فدب الشقاق بينهم ونشب بينهم معارك طاحنة أضرت بالبلاد.
وكانت الاضطرابات التي اجتاحت ارجاء الدولة العباسية قد اسقطت هيبتها فكثر قطاع الطرق وانتشر السلب والنهب وتنافس الامراء على الملك، وكانت المؤمرات والدسائس تدبر في البلاط العباسي وفي قصور الامراء وفي سائر انحاء الدولة،وانتشرت الفرقة والبغضاء بين الناس وصاروا يتحيزون للامراء المتنازعين،وكلما انتصر أمير على أمير ساروا في ركاب المنتصر يمدحونه ويشتمون خصمه. وأستشرى بين الناس النفاق وضعف الوازع الديني في نفوسهم.
وظهر عدد من دعاة الخير يامرون بالمعروف وينهون عن المنكر،وكان في طليعتهم الشيخ عبد القادر الذي استطاع بالموعظة الحسنة ان يرد كثيرا من الحكام الظالمين عن ظلمهم وان يرد كثيرا من الضالين عن ضلالتهم،حيث كان الوزراء والامراء والاعيان يحضرون مجالسه،فيشتد في موعظتهم حتى تنتبه افئدتهم وتستيقظ ضمائرهم،فيتوبوا الى الله تعالى ويقلعوا عن المظالم، وكانت عامة الناس اشد تأثراً بوعظه،فقد تاب على يديه اكثر من مائة الف من قطاع الطرق واهل الشقاوة،واسلم على يديه مايزيد على خمسة الآف من اليهود والنصارى.
وكان الشيخ عبد القادر قد حباه الله تعالى بشخصية فذة ونفوذ روحي فكان يسيطر على قلوب المستمعين الى وعظه ويستهوى نفوسهم في التذذ بحديثه،حتى انه استغرق مرة في كلامه وهو على كرسي الوعظ فانحلت طية من عمامته وهو لايدري فألقى الحاضرون عمائهم وطواقيهم تقليداً له وهم لاشعرون.
تصديه للتدريس
وبعد ان توفي الشيخ ابي سعيد المبارك المخزومي فوضت مدرسته الى خليفته بالحق الشيخ عبد القادر الجيلاني فجلس فيها للتدريس والفتوى،وكانت شخصيته الفذة وحبه للتعليم وصبره على المتعلمين جعلت طلاب العلم يقبلون على مدرسته اقبالا عظيما حتى ضاقت بهم فاضيف اليها ما جاورها من المنازل والامكنة ما يزيد على مثلها وبذل الاغنياء أموالهم في عمارتهم وعمل الفقراء فيها بانفسهم حتى تم بناؤها سنة528 (ه)-1133(م). وصارت منسوبة اليه وتصدر بها للتدريس والفتوى والوعظ مع الاجتهاد في العلم والعمل.
كان الشيخ عبد القادر عالما متبصرا يتكلم في ثلاثة عشر علما من علوم اللغة والشريعة،حيث كان الطلاب يقرأون عليه في مدرسته دروسا من التفسير والحد يث والمذهب والخلاف والاصول واللغة، وكان يقرأ القرآن بالقراءات وكان يفتي على مذهب الامام الشافعي والامام أحمد رحمهم الله تعالى.
تضلعه في الكتاب
وكان الشيخ عبد القادر رحمه الله في طليعة الداعين الى التوسع في الفهم القران الكريم والاحاديث النبوية والتفهم على استنباط الدلائل المتعلقة بالعقائد والاحكام الفقهية منها ولذا كان على جانب كبير من المعرفة في علوم القران وعلوم الحديث حتى انه فاق علماء عصره في هذه العلوم الشريفة.
ومما يدل على سعة معرفة الشيخ بالكتاب الكريم.مااخبره به الشيخ يوسف بن الامام ابي الفرج الجوزي العلامة البغدادي الشهير فقال:-
قال لي الحافظ احمد البندلجي حضرة ووالدك رحمة الله تعالى يوما مجلس عبد القادر رحمه الله ، فقرأ القارئ آية،فذكر الشيخ في تفسيرها وجها فقلت لوالدك اتعلم هذا الوجه؟ قال نعم،ثم ذكر الشيخ وجها اخر،فقلت لوالدك اتعلم هذا الوجه؟قال نعم،فذكر الشيخ فيها احد عشر وجها،وانااقول لوالدك اتعلم هذا الوجه؟وهو يقول نعم.ثم ذكر الشيخ وجها آخر،فقلت لوالدك أتعلم هذا الوجه قال لا حتى ذكر فيها كمال اربعين وجها يعزو كل وجه الى قائله ووالدك يقول لااعرف هذا الوجه واشتد تعجبه من سعة علم الشيخ.
وكان الشيخ عبد القادر رحمه الله لايروي في كتبه وخطبه غير الاحاديث الصحيحة وكان له باع طويل في نقد الحديث وكان يشرح الحديث في معناه اللغوي،ثم ينتقل الى شرح مغزاه ، ثم ينتقل الى استنباط المعاني الروحية منه، وهكذا كان قد جمع بين ظاهرية المحدثين وروحانية الصوفية.
وكان الشيخ عبد القادر لايشجع طلابه على دراسة الفلسفة او علم الكلام، لانه لا يرى انهما ليسا من العلوم الموصلة الى الله تعالى ، ثم انه يخشى ان ينصرف طلابه اليهما فيقعوا في مهاوي الاراء الفلسفية او الكلامية البعيدة عن العقيدة الشرعية.
قال الشيخ منصور بن المبارك الواسطي الواعظ دخلت وانا شاب على الشيخ عبد القادر رحمه الله عنه ومعي كتاب يشتمل على شيئ من الفلسفة وعلوم الروحانيات فقال لي من دون الجماعة وقبل ان ينظر الى كتاب او يسألني عنه ،يا منصور بئس الرفيق كتابك قم فاغسله وناولني بدله كتاب فضائل القرآن لمحمد بن العريس.
ولقد روى الشيخ تقي الدين بن تيمية عن الشيخ احمد الفاروقي انه سمع الشيخ شهاب الدين عمر السهرودي يقول:
كنت قد عزمت ان اقرأ شيأ من علم الكلام وانا متردد هل اقرأ كتاب الارشاد الامام الحرمين او نهاية الاقدام للشهرستاني او كتاب اخر،فذهبت مع خالي ابي النجيب وكان يصلي بجنب الشيخ عبد القادر،فالتفت الي الشيخ عبد القادر وقال ياعمر ماهو من زاد القبر.فعلمت انه يشير الى دراسة علم الكلام فرجعت عنه.